العدم والبقاء فى الموت
الوصف المبسط الذي كتبه موسى النبي في سفر التكوين، عن سقوط الإنسان، وصوره في سياق فكرة الجنة والطرد منها، والشجرة المحرمة والأكل من ثمرتها، التي عشنا كل عمرنا نتصور أنها قصة حرفية، على الرغم من أن القصة في حد ذاتها كما وردت في سفر التكوين تنفي عن نفسها فكرة الحرفية؛ فلم يَقُل سفر التكوين أنها كانت شجرة تفاح بل قال إن ثمرتها باعثة على الفهم (تكوين ٣ :٦)، وأن الحية تحدثت إلى المرأة وصنعت حوارًا معها! وكانت هذه الأمثلة وغيرها كافية بأن تلفت نظرنا إلى رمزية القصة ذات المعنى والدلالات العميقة. لقد استخدم موسى تشبيهات وتعبيرات مجازية ذات المعنى والدلالات العميقة لسرد قصة السقوط لنفهم ما معنى سقوط الإنسان وكيف سقط، وعواقب هذا السقوط.
القديس أثناسيوس في كتابه "الرسالة إلى الوثنين" يشرح بوضوح أن قصة الجنة والشجرة كانت قصة رمزية أراد موسى النبي أن يعبر بها عن سقوط الإنسان الأول، ويستطرد القديس أثناسيوس ليشرح في نفس الكتاب ما هو سقوط الإنسان فيقول: إن الإنسان لما خُلق نفخ الله في أنفه نسمة الحياة، وأن نسمة الحياة هذه كانت هي عطية الروح القدس، ومن ثم فإن الإنسان الأول منح عطية الروح القدس وبالتالي فقد كانت له شركة مع الكلمة الأزلي (اللوجوس)، وأنه كان بهذه الشركة شاخصًا بعقله في نور ومجد وبهاء الكلمة الأزلي (اللوجوس)؛ وأن السقوط قد حدث تدريجيًا كما يشرح القديس أثناسيوس بأن تحول الإنسان من الشخوص والتأمل بعقله في النور الأزلي، الذى كان بالتالي يفيض فيه بالحياة والاستنارة؛ فإنه تحول إلى التأمل في الماديات ومن ثم فقد مصدر النور فصار في ظلمة العقل وفقد مصدر حياته فصار في الموت؛ فهنا ينفرد القديس أثناسيوس بهذا الوصف لحالة الإنسان بعد السقوط (في كتاب تجسد الكلمة) فيقول عن هذه الحالة ”البقاء في الموت“.
سأحاول ان أشرح كلام أثناسيوس بطريقة تطبيقية من الحياة الواقعية بمثالين: -
المثال الأول هو أن الإنسان حينما كان شاخصًا في الكلمة (اللوجوس) كان شاخصًا في النور والحب والحياة؛ فلما تحول إلى التركيز المُستميت في الماديات ومحبة المال، تحول فكرهُ عن النور والمحبة إلى الكراهية والصراع ورفض الآخر، الذي أثمر بدوره القتل والحروب، كما نرى بوضوح في قصة قايين وهابيل (تكوين ٤: ٨).
والمثال الثاني هو أن الإنسان لما كان شاخصًا في الكلمة (اللوجوس) وممتلئ من الحب الإلهي وحياة الله، هذا الحب الإلهي كان حالاً في العلاقة بين الرجل وامرأته وبالتالي تكوين الأُسرة والأبناء كان قائمًا على روعة المحبة وعطاء النفس والجسد كل للآخر بالمحبة، فكانت الحياة الإنسانية مغمورة بالمحبة وأيضًا بالحياة الإلهية الفائقة؛ التحول من التأمل في النور والحب إلى التأمل في الأجساد حول المرأة في علاقته بها من المُحب إلى المَحبوب، لتصبح علاقة استغلالية واستهلاكية تسعى إلى البحث عن اللذة الحسية وتحويل الآخر إلى شيء، كمصدر للذته دون الحب والقيمة والاتجاه إلى الآخر كمحبوب، وهكذا تحول الجنس من وعاء للمحبة إلى وعاء للابتذال والاستهلاك والاشتهاء وكل أشكال الفساد التي دمرت الأُسرة وإنسانية الإنسان، وهذه هي صورة ومعنى “البقاء في الموت” الذى تحدث عنه أثناسيوس.
وهذا فضلاً عن حالة الشقاء النفسي وغياب الإحساس بالحياة والقيمة والمعنى، الذي يدفع الكثيرين إلى الانتحار بمعدلات متزايدة ويترك الباقين في طوابير الانتظار أمام العيادات النفسية واللهث وراء العقاقير المهدئة والمنومة والمخدرة وروشتات العلاج
النفسي والعقلي والعصبي التي صارت الأكثر شيوعًا بين الناس.
هذه الحالة العدمية (البقاء في الموت) التي يعيش فيها كثيرون، يعملون ويأكلون ويشربون ويتزوجون ولكنهم فاقدين للإحساس بالوجود والحياة والسعادة؛ ولا سبيل إلى خروج الإنسان من هذا المأزق إلا باستعادة الشخوص في النور الأزلي والاتحاد العقلي بالابن الكلمة (اللوجوس) الذي يفيض فيه مجددًا بالحب والحياة من جديد فيستعيد معنى وجوده وينتقل من البقاء في الموت إلى الامتلاء من الحياة والاستنارة. وهذه هي غاية تجسد الكلمة (اللوجوس).